اللهم لك الحمد أنت المستعان على كل نائبة، وأنت المقصود عند كل نازلة، لك عنت وجوهنا وخشعت لك أصواتنا، أنت الرب الحق... وأنت الملك الحق... وأنت الإله الحق.
أنت المدعوّ في المهمات، وإليك المفزع في الملمات، لا يندفع منها إلاّ ما دفعت، ولا ينكشف منها إلاّ ما كشفت.
ونصلي ونسلم على أشرف رسلك وخاتم أنبيائك وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
فإنّ من حكمة الله أن يبتلي عباده بألوان من الهموم والأمراض والمصائب؛ ليسألوه، ويقفوا بين يديه، فيجدوا ربًا غنيًا غير فقير، وقريبًا غير بعيد، وعزيزًا غير ذليل لأنّ الابتلاء يسوق الإنسان إلى ربه سوقًا، يتوسل إليه ويدعوه فيجده ربه قريبًا مجيبًا فيعرف العباد له قدرته وكرمه ورحمته وحكمته. ذلك هو اسم الله المجيب: {إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [سورة هود: من الآية 61] .
مجيب السائلين حملت ذنبي *** وسرت على الطريق إلى حماكا
ورحت أدق بابك مستجيرًا *** ومعتذرًا... ومنتظرًا رضاكا
دعوتك يا مفرج كل كرب *** ولست ترد مكروبًا دعاكـا
وفي خضم الحياة المادية يحتاج المؤمن إلى ملجئ يأوي إليه، ومعين يعتمد عليه، وقوي جليل يتقوى بقواه، وعظيم كبير يحتمي بحماه ومفتاح ذلك الدعاء.
تسقط القوة، وتعيا الحيلة فليس إلاّ الدعاء...
تضيق الدنيا بأهلها حتى كأنّها سم الخياط فليس إلاّ الدعاء.
بالدعاء تحل عقد المكاره، ويفل حد الشدائد، وبه يلتمس المخرج، ومعه تفتح أبواب الفرج.
إنّ الدعاء معين من الخير لا ينضب، ومدد من العون لا ينفد؛ لأنّه باب العطاء العظيم والله سبحانه يحب الداعين ولا يخيب السائلين!
إنّه المُجِيب الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء.
إنّه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه.
كل الخلائق مفتقرة إليه، ولا قوام لحياتها إلاّ عليه، لا ملجأ لها منه إلاّ إليه، وجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [1]، ولكن الله حكيم في إجابته، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل، لكن الله تعالى يجيب عبده حتمًا ولا يخيب ظنه أبدًا كما وعد وقال وهو أصدق القائلين {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة: 186]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر: من الآية 60].
إنّه الإله العظيم القريب المجيب... يدعى لكشف الضر؛ فترسل السماء ماءها وتخرج الأرض بركاتها وزهرتها...
خرج رجل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فقال يا رسول الله: هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: «اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا». قال أنس: ولا والله مانرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: والله مارأينا الشمس ستًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائمًا، فقال: يارسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والضراب والأودية ومنابت الشجر». قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس [2].
وفي كتاب (الفرح بعد الشدة) للتنوخي أن امرأة بالبادية، جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها، فرفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف، وبيدك التعويض عما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإنّ أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك.
قال: فلم أبرح، حتى جاء رجل من الأجلاء، فحدث بما كان، فوهب لها خمسمائة دينار.
إنّه الإله العظيم الكريم المجيب... يدعى ويؤمل لصلاح القلب، فتذهب عن النفوس شدتها، وعن القلوب قسوتها، ويبتهل إليه لشفاء السقيم ومغفرة الذنب العظيم، فيشفى المرض ويغفر الذنب.
إنّه مجيب السائلين صاحب العطايا، ومنزل البركات...
وفي ساعات الاضطرار واليأس من كل قريب، وانقطاع الأسباب عن كل مجيب فالله هو الذي {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [سورة النمل: من الآية 62].
أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب (المجابين) عن الحسن ـ رحمه الله ـ أنّه قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مغلق وكان تاجرًا يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكًا ورعًا فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح. فقال له: ضع ما معك فإنّي قاتلك! قال: فما تريد إلى دمي فشأنك والمال؟ قال: أما المال فلي، ولست أريد إلاّ دمك. قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات. قال: صلي ما بدا لك. فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالًا لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يامغيث أغثني، يا مغيث أغثني، فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه، فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم، فقال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله. قال الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب [3].
فإذا كنت في كرب وشدة فإنّ الفرج موصول بالدعاء فإنّه سبحانه نعم المجيب {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [سورة الصافات: 75]، {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [سورة الأنبياء: 76].
وإذا كنت في ضر ومرض وألم فلا تضن على نفسك بالدعاء فبه يكشف الضر وبه يزول: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [سورة الأنبياء: 84].
وإذا دفعت إلى شدة شديدة، وخوف عظيم، لا حيلة لك فيها، فالجأ إلى الصلاة والدعاء، وأقبل على التضرع والبكاء، وأسأل الله عز وجل تعجيل الفرج فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلاّ الله العظيم الحليم لا إله إلاّ الله رب العرش العظيم لا إله إلاّ الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم» [4].
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال اللهم إنّي عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلاّ أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا». فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: «بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» [5].
قال ابن مسعود : "ما كرب نبي من الأنبياء إلاّ استغاث بالتسبيح {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنبياء: 88]".
وفي كتاب (الفرج بعد الشدة) أنّ الوليد بن عبد الملك بن مروان كتب إلى صالح بن عبد الله المزني، عامله على المدينة، أن أنزل الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فاضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة سوط.
قال: فأخرجه صالح إلى المسجد، ليقرأ عليهم كتاب الوليد بن عبد الملك، ثم ينزل فيضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب، إذ جاء علي بن الحسين عليهما السلام، مبادرًا يريد الحسن، فدخل والناس معه إلى المسجد، واجتمع الناس، حتى انتهى إلى الحسن فقال له: يا ابن عم، ادع بدعاء الكرب. فقال: وما هو يا ابن عم قال: قل: ((لا إله إلاّ الله الحليم الكريم، لا إله إلاّ الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين)) [6]. قال: وانصرف علي، وأقبل الحسن يكررها دفعات كثيرة. فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل عن المنبر، قال للناس: أرى سحنة رجل مظلوم، أخروا أمره حتى أراجع أمير المؤمنين، وأكتب في أمره. ففعل ذلك، ولم يزل يكاتب، حتى أطلق. قال: وكان الناس يدعون، ويكررون هذا الدعاء، وحفظوه. قال: فما دعونا بهذا الدعاء في شدة إلاّ فرجها الله عنا بمنه.
((اللهم إليك نفزع، وعليك نتوكل، وإيّاك نستعين.
سبحانك لا مغلق لما فتحت، ولا فاتح لما أغلقت.
سبحانك لا ميسر لما عسرت، ولا معسر لما يسرت.
اللهم اجعل لنا وللمستضعفين من المؤمنين من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية. دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا وأنت القريب المجيب، لا نخيب ونحن لك راجون، ولا نذل ونحن بابك واقفون، ولا نفتقر ونحن لك قاصدون)).
كلية الشريعة وأصول الدين ـ جامعة القصيم ـ الدراسات العليا
22/2/1429
[1] ينظر: الاعتقاد للبيهقي ص60، والأسماء والصفات للرضواني ص88 بتصرف واختصار.
[2] متفق عليه: رواه البخاري برقم 967، ومسلم برقم 898 من حديث أنس رضي الله عنهما.
[3] قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ص7: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته أو صادف الدعاء وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 2336 برقم 5986).
[5] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/391 برقم (3712).
[6] يقال في هذا الدعاء مثل ما قاله الإمام ابن القيم في الدعاء السابق فإنّ الوارد في دعاء الكرب هو الحديث المعروف في حاشية (4).
ماجد بن أحمد الصغير